كان التحدي الأكبر هو الوصول إلى الإعجاز العلمي في القرآن، وصولاً إلى معرفة العديد من التفسيرات بدقة شديدة والتعرف على قيم وأخلاقيات شديدة الأهمية في مجتمعنا الحالي وينبغي عليه معرفتها وتوصيلها للأطفال الصغار، وهذا من عجائب القرآن التي عرفها المفسرون.
كيف تتنوع معجزات القرآن الكريم
إنّ الإعجاز العلمي في القرآن يتنوع بشكل كبير، ومن بينها يبرز مفهوم العدد الذي يظهر في آياته وكلماته، ما يعكس تنظيماً دقيقا فعلى سبيل المثال: :
- تأتي كلمة “الدنيا” في القرآن الكريم 115 مرة، بينما تظهر كلمة “الآخرة” أيضاً بنفس العدد، وهو 115 مرة، مما يعكس توازناً بين الحياة الدنيا والحياة الآخرة.
- كلمة “الملائكة” تظهر في القرآن 88 مرة، في حين يتناغم ذلك مع ذكر كلمة “الشياطين” بنفس العدد، وهو 88 مرة أيضاً، مما يبرز التناغم والتوازن في العالم الروحي.
- تظهر كلمة “محمد” في القرآن 4 مرات، ويتناغم ذلك مع ذكر كلمة “شريعة” بنفس العدد، وهو 4 مرات أيضاً، مما يعكس أهمية الرسالة النبوية والتزام المسلمين بالشريعة.
تُظهر هذه الأمثلة التوازن والتناغم في تكرار بعض الكلمات في القرآن الكريم، مما يعزز إيمان المسلمين بأن القرآن ليس كتاباً عادياً، بل هو معجزة لغوية وعلمية.
اقرأ المزيد عن: شروط حفظ القرآن للكبار.
أسلوب الإيجاز في القرآن الكريم
ومن أبدع الأساليب في كلام العرب: الإيجاز، فهو ساحة تنافسهم، وغاية تتبارى إليها فصحاؤهم، فجاء القرآن بأبدع إيجاز، والمعاني المتعددة تؤخذ من العبارة القصيرة الوجيزة، ولولا إيجاز القرآن لكان ما يتضمنه من المعاني في أضعاف حجم المصحف .
قال بعض بطارقة الروم لعمر بن الخطاب لما سمع قول الله: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ [سورة النور:52]. فقال: قد جمع الله في هذه الآية ما أنزل على عيسى من أحوال الدنيا والآخرة.
قال ابن قتيبة: “فإن شئت أن تعرف ذلك -يعني هذه العجيبة من عجائب القرآن وهي الإيجاز- فتدبر قوله سبحانه: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ [سورة الأعراف:199]. كيف جمع بهذا الكلام المختصر الأخلاق كلها؛ لأن في أخذ العفو صلة القاطعين، والصفح عن الظالمين، وإعطاء الممانعين، وفي الأمر بالمعروف تقوى الله، وصلة الأرحام، وصَون اللسان عن الكذب، وغض الطرف عن المحرمات والحرمات”[8]، وإنما سمي هذا وما أشبهه عُرفاً ومعروفاً؛ لأن كل نفس تعرفه وكل قلب يتوق إليه، وفي الإعراض عن الجاهلين الصبر والحلم وتنزيه النفس عن مماراة السفيه.
مظاهر الإعجاز العلمي في القرآن
- وقال الشيخ عبد الرحمن السعدي -رحمه الله تعالى عن قوله تعالي “خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين” “هذه الآية جامعة لحسن الخلق مع الناس وما ينبغي في معاملتهم، فالذي ينبغي أن يعامل به الناس أن يأخذ العفو، أي ما سمحت به أنفسهم، وما سهل عليهم من الأعمال والأخلاق، فلا يكلفهم ما لا تسمح به طبائعهم، بل يشكر من كل أحد ما قابله به من قول أو فعل جميل، أو ما هو دون ذلك، ويتجاوز عن تقصيرهم، ويغض طرفه عن نقصهم، ولا يتكبر على الصغير لصغره، ولا ناقص العقل لنقصه ولا الفقير لفقره، بل يعامل الجميع باللطف والمقابلة بما تقتضيه الحال، وتنشرح له صدورهم”[9].
- وهكذا قوله: وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ قال -رحمه الله: “بكل قول حسن وفعل جميل وخلق كامل للقريب والبعيد، فاجعل ما يأتي إلى الناس منك إما تعليم علم، أو حث على خير، أو صلة رحم، أو بر والدين، أو إصلاح بين الناس، أو نصيحة نافعة، أو رأي مصيب، أو معاونة على بر وتقوى، أو زجر عن قبيح، أو إرشاد إلى تحصل مصلحة دينية أو دنيوية، ولما كان لا بد من أذية الجاهل أمر الله تعالى أن يقابل الجاهل بالإعراض عنه وعدم مقابلته بجهله، فمن آذاك بقوله أو فعله فلا تؤذه، ومن حرمك لا تحرمه، ومن قطعك فصِله، ومن ظلمك فاعدل فيه” انتهى كلامه رحمه الله[10].
- كذلك لو تأملنا قول الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [سورة النحل:90].
- فهذه الآية جامعة لجميع المأمورات وجميع المنهيات، ما بقي شيء إلا دخل فيها فهي قاعدة تندرج تحتها سائر الجزئيات، فكل مسألة تشتمل على عدل أو إحسان أو صلة فهي مما أمر الله به، وكل شيء يشتمل على فحشاء أو منكر أو بغي فهو مما نهى الله عنه، فتبارك من جعل في كلامه الهدى وشفاء الصدور والفرقان والنور، وكذلك تأمل قوله: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ [سورة الزلزلة:7، 8]، تراه شاملاً لكل خير، وكذلك لكل شر، وهكذا في الترغيب والترهيب.
- وقال لما ذكر الأرض: أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا [سورة النازعات:31]. كيف دلّ بشيئين على جميع ما أخرجه من الأرض قوتاً ومتاعاً للأنام من العشب والشجر والحب والثمر والحطب والعصف واللباس والنار والملح؛ لأن النار من العيدان والملح من الماء، وينبئك أنه أراد ذلك قوله: مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ [سورة النازعات:33].
- وكذلك في وصف خمر الجنة: لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنْزِفُونَ [سورة الواقعة:19]. كيف نفى بهذين اللفظين جميع عيوب الخمر، وجمع بقوله: وَلَا يُنْزِفُونَ عدم ذهاب العقل، وعدم ذهاب المال.
- وكذلك عدم نفاد الشراب؛ لأن شراب الدنيا ينفد، وقرأ عامة قراء المدينة والبصرة وبعض قراء الكوفة “يُنزَفون” بفتح الزاي، يعني: ولا هم عند شربها تنزف عقولهم، وقرأ عامة قراء الكوفة: وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ [سورة الصافات:47]، بمعنى: ولا هم عند شربهم ينفد شرابهم، فلا يسكرهم ولا ينتهي.
- وتأمل في قوله مثلاً: وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ [سورة البقرة:179]. فهي من جوامع الكلِم، وأقرب حكمة عند العرب لها: “القتل أنفى للقتل” يعني: لو أردنا أن نأتي بأحكم عبارة عربية من الكلمة العربية والأمثال العربية وما أبدعه العرب من الجمل القصيرة المحكمة قولهم: “القتل أنفى للقتل” في التعبير عن القصاص، وهذه عبارة مختصرة فيها المعنى الكبير، “القتل أنفى للقتل”، القتل بالقصاص يدفع وينفي القتل الذي هو بالاعتداء.
- ولكن قوله تعالى: وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ [سورة البقرة:179]، أبلغ وأجمل وأوعى وأنفع؛ لأنها في غاية الفصاحة والبلاغة مع ما فيها من الغرابة باشتمال الشيء وضده، فإن القصاص قتل وتفويت للحياة، ومع ذلك فقد جُعِل حياة، لماذا؟ وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌعني قتل القصاص- هذه أعجب من قولهم: القتل أنفى بالقتل!
- وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ [سورة البقرة:179]، مع أن القصاص قتل، لكن قال فيه حياة؛ لأن القصاص يردع، فكثير من القتل والإجرام لن يحصل إذا أقيم القصاص؛ لأن القصاص سيرهب المجرمين والقتلة، فلن يقتلوا فيعيش كل من كانوا سيُقتلون، فقوله: وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ -وهو قتل- حَيَاةٌ [سورة البقرة:179]، أدهش وأبرع وأبلغ وأعجب من القتل الأنفى للقتل.
- بالإضافة إلى أنه عرّف القصاص ونكّر الحياة وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ هذه معرفة بأل التعريف، ثم قال: حَيَاةٌ. نكرة، ما قال: ولكم في قصاص الحياة.
- قال: وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ [سورة البقرة:179]، ليدل على أن في هذا الجنس من الحكم الذي هو القصاص حياة عظيمة، فالتنكير للتعظيم، يعني: ولكم في القصاص حياة كثيرة، حياة عظيمة؛ لما في القصاص من الردع، فتحيا نفوس كثيرة كانت ستقتل بدون تنفيذ حكم القصاص وبدون تقرير حكم القصاص في الواقع.
- قال القاسمي -رحمه الله: “اتفق علماء البيان على أن هذه الآية في الإيجاز مع جمع المعاني البالغة أعلى الدرجات، وذلك لأن العرب عبّروا عن هذا المعنى بألفاظ كثيرة، كقولهم: قتل البعض إحياء للجميع، وقول آخرين: أكثروا القتل ليقل القتل”. وأجود الألفاظ المنقولة عن العرب في هذا الباب قولهم: القتل أنفى للقتل.
- ومن المعلوم لكل ذي لُبّ أن بين هذه العبارة العربية وبين ما في القرآن كما بين الله وخلقه – يعني هذا كلام الخلق وهذا كلام الله- وأنى لهذه العبارة عند العرب أن تصل لعذوبة القرآن وجماله وبلاغته”[11]، ولذلك لا يشبه كلام الله كلام أحد من خلقه.
عجائب وأسرار القرآن الكريم
- وساق القاسمي -رحمه الله- نحواً من عشرين وجهاً في بيان تفوق الآية على حكم العرب، ومنها: أن الآية فيه مطّردة بخلاف المثل، فإنه ليس كل قتل أنفى للقتل، بل قد يكون أدعى له! وهو القتل ظلماً.
- فقولهم: القتل أنفى للقتل، القتل عامة تشمل القتل بحق والقتل بباطل، لكن قوله تعالى: وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ [سورة البقرة:179]. القصاص عدل، القصاص القتل بحق، بجرد كلمة قصاص تعني قتل بحق، بينما قول العرب “القتل أنفى للقتل” القتل هذه الأولى عامة تحتمل قتل بحق وقتل بباطل.
- فإذا كان قتلاً بباطل فهذا فتح باب القتل وليس إغلاق الباب، فتأمل الفرق بين دقة القرآن وعجائب القرآن وبين الحكم الأخرى ماذا يمكن أن تنفتح، أن يرد عليها من الإيرادات وينفتح عليها من الاعتراضات، ثم إن الآية خالية من تكرار رفض القتل الواقع في المثل والخالي من التكرار أبلغ من المشتمل عليه في قواعد الفصاحة.
- ثم إن الآية اشتملت على فن البديع، وهو جعل أحد الضدين، ما هما الضدان؟ الموت والحياة.
- جعل أحد الضدين محلاً ومكانا ًلضده، واستقرار الحياة في الموت مبالغة عظيمة، وكذلك إن لفظ القصاص مشعر بالمساواة، وينبئ عن العدل بخلاف مطلق القتل، القتل أنفى للقتل.
- ثم إن الآية رادعة عن القتل والجرح معاً، وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ [سورة البقرة:179]. حتى في الجروح الناتجة عن الاعتداءات المتعمدة.
- ثم إن الآية رادعة عن القتل والجرح معاً لشمول القصاص لهما بخلاف عبارة العرب “القتل أنفى للقتل” ما فيها ذكر الجراح، فالآية أبلغ وأوعى وأوعب.
- وتأمل قول الله تعالى: وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ [سورة يوسف:25].
- هذه من عجائب القرآن، فلا يطيق الثقلان أن يجمعا كل المعاني في هذه التي لا تتجاوز عشر كلمات.
- فتصوير المشهد، هو تصوير المشهد لا يتم عند العرب بمثل هذه الكلمات، فلو أن القصة سردت لعربي وقيل له عبر عنها بأوجز عبارة، ما أطاق أن يأتي بمثل هذا، لا يستطيع.
- وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ [سورة يوسف:25].
عجائب كلمات القرآن
- هذه الكلمات تصف مشهداً تصوره لك كأنك حاضر فيه تنظر إليه، تنظر إليه وهما يتسابقان، ويريد الهروب، وهي تريد اللحاق به والإمساك قبل أن يهرب بغية أن تحصل على مرادها في الفاحشة معه.
- وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ [سورة يوسف:25]. فأمكنها الإمساك بطرف قميصه -لا به- وانقطعت القطعة نتيجة سعيه في الهرب وسعيها في الإمساك به، وبلغا الباب فألفيا ووجدا سيدها وزوجها لدى الباب، فكانت المفاجأة وهذا المشهد، هو وهي خلفه والسيد أمامهما يتلقاهما عند الباب، هو داخل ويوسف خارج أَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ [سورة يوسف:25].
- هذا التصوير لا يمكن أن يأتي به، لو قيلت التفاصيل لعربي بليغ وقيل له وهو لا يعرف الآية ولم يسمع بها: صور لنا هذا المشهد؟
- كم كلمة تحتاج لتعبر عن هذه المعاني بذاتها كاملة، وتصور المشهد بدقة كأننا نراه، صوره لنا كأننا نراه وفيه كل هذه التفاصيل وكل كلمة لها مدلول؟
- وَاسْتَبَقَا هناك مسابقة، الْبَابِ جهة الباب، إلى تلك الجهة وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ هي كلمتان: وَاسْتَبَقَا الْبَابَ.
- وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ واضح جهة القطع من أين، وَقَدَّتْ هي، قَمِيصَهُ هو، مِنْ دُبُرٍ.
- وَأَلْفَيَا كلاهما وجدا سيدها -فهو زوج المرأة- هناك فرق بين سيدها وسيده، مع أنه سيده، لكن التعبير “سيدها” هنا في هذا المقام أبلغ، وهنا وقع المصيبة والمفاجأة أكبر، سيدها، هنا الفضيحة. وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ
- هذه جزء من آية تصور أشياء كثيرة، تصور المشهد كاملاً وبالدقة وبالفوائد والتفاصيل الموجودة فيه، فلا يمكن لغير كلام الله أن يصور ويعبّر ويجمع ما جمع.